عادت قضية حقل “الدرة” الغني بالغاز والنفط في الخليج إلى الظهور مجددا، بعد إعلان مسؤول في طهران الرغبة في التنقيب بالحقل الذي تتنازع عليه إيران مع الكويت والسعودية، وهو ما ردت عليه الرياض والكويت بأنهما فقط تملكان حق استغلال الثروات الطبيعية في الحقل، ودعتا طهران إلى التفاوض بشأن ترسيم الحدود البحرية.
ورغم أن الحقل، المعروف في إيران باسم “آرش” وفي الكويت والسعودية باسم “الدرة”، هو منطقة متنازع عليها منذ عقود، إلا أن التوترات الأخيرة تأتي في سياق تقارب بين السعودية وإيران، القوتين الإقليميتين المتنافستين.
وأوردت وكالة الأنباء السعودية (واس) عن مصدرٌ مطلع في وزارة الخارجية أن “ملكية الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة، بما فيها حقل الدرة بكامله، هي ملكية مشتركة بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة”.
وأضاف المصدر أن “المملكة تجدد دعواتها السابقة للجانب الإيراني للبدء في مفاوضات لترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت كطرف تفاوضي واحد مقابل الجانب الإيراني”.
وفي السياق ذاته، أكدت وزارة الخارجية الكويتية في بيان أن “الكويت والسعودية لهما وحدهما حقوق خالصة في الثروة الطبيعية في حقل الدرة”، وجددت الكويت دعوتها إيران لاستئناف محادثات ترسيم الحدود البحرية.
ونقلت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) عن وزير النفط الكويتي سعد البراك القول: “نرفض جملة وتفصيلا الادعاءات والإجراءات الإيرانية حيال حقل الدرة وهو ثروة طبيعية كويتية سعودية ليس لأي طرف آخر أي حقوق فيه حتى يتم ترسيم الحدود البحرية”.
التاريخ.. والإشكالية
ومسألة ترسيم الحدود البحرية في هذه المنطقة ظلت عالقة لعقود. ويعود النزاع الدائر حول حقل الدرة إلى ستينيات القرن الماضي حين منحت إيران امتيازا بحريا للشركة النفطية الإنكليزية الإيرانية التي أصبحت لاحقا “بي بي”، فيما منحت الكويت الامتياز إلى “رويال داتش شل”، وفق فرانس برس. ويتداخل الامتيازان في القسم الشمالي من الحقل المليء بالاحتياطات من الغاز.
ويقول تقرير لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن إنه تم اكتشاف حقل الدرة في منتصف الستينيات في وقت لم تكن الحدود البحرية معروفة بشكل جيد، ولم يكن الغاز يعتبر من الأصول الاستراتيجية المهمة التي تسعى الدول للحصول عليها.
وفي ذلك الوقت، منحت الكويت وإيران امتيازات بحرية متداخلة بسبب هذه الحدود البحرية غير المرسومة، بينما أنشأت الكويت والسعودية ما يعرف باسم “المنطقة المحايدة المقسومة”، في منطقة الحدود البرية والبحرية والتي تضم حقولا نفطية هامة، من أبرزها الخفجي والوفرة، وتم توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم لتقسيم المنطقة المحايدة وتقسيم المنطقة المغمورة المحاذية لها.
ويقع حقل الدرة في الجزء البحري من المنطقة المحايدة شمالا، لكنه في تفسير طهران يمتد أيضا إلى مياهها.
ولم يتم الاتفاق حتى الآن على الحدود الحدود الشرقية للمنطقة التي تحدد حقل الدرة، وهو ما تسعى الأطراف المعنية إلى إنجازه منذ عقود.
وقال الكاتب والمحلل السياسي الإيراني، حسين رويران، في تصريحات لموقع الحرة، إن الإشكالية تتعلق بما إذا كان الحقل يشمل المياه الاقليمية الكويتية السعودية فقط، أم يمتد للمياه الإقليمية الإيرانية.
ويرى أن إيران تريد فقط استكشاف المنطقة بشكل كامل لمعرفة الحقيقة، وإذا كانت هناك حدود ثلاثية مشتركة، حينها يمكن إبرام تفاهم ثلاثي،و إذا كانت تخص فقط السعودية والكويت، ستكون المنطقة خاصة بهما فقط.
وأضاف: “إيران لا تطرح ادعاء. هي فقط تريد استكشاف كامل للحقيقة لمعرفة حقوق كل طرف”.
ويقول المحلل السياسي السعودي، مبارك آل عاتي، لموقع الحرة إن البيان السعودي كان حاسما في تأكيد حقوق الدولتين فيه والاستثمار فيه، مع استعدادهما للتفاوض مع الجانب الإيراني طبقا للقرارات والأعراف الدولية.
ويرى المحلل الإيراني أنه يمكن حل المسألة ضمن قواعد القانون الدولي باعتبار أنه لم يتم إبرام اتفاق ثنائي بين الطرفين من قبل.
ودفع تنقيب إيران في الحقل، في عام 2001، الكويت والسعودية إلى إبرام اتفاق لتطوير الحقل على الرغم من اعتراض طهران التي وصفت الصفقة بأنها “غير شرعية”.
وعلى مدار السنوات الماضية، أجرت إيران والكويت مباحثات لتسوية النزاع حول منطقة الجرف القاري على الحدود البحرية بين البلدين، إلا أنها لم تؤد إلى نتيجة.
وفي مارس 2022، طالبت إيران بـ “حقها” في الاستثمار بحقل الدرة، بعد أيام من توقيع السعودية والكويت وثيقة لتطوير الحقل، في خطوة جاءت بهدف تنفيذ مذكرة تفاهم كان قد وقعاها في ديسمبر 2019 و”تضمنت العمل المشترك على تطوير واستغلال حقل الدرة”.
والأسبوع الماضي، قال المدير التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية محسن خجسته مهر “نحن جاهزون تماما لبدء عمليات الحفر في حقل آرش”، وفق ما نقلت عنه وكالة أنباء فارس الإيرانية.
وتابع: “اعتمدنا موارد مالية كبيرة لتطوير هذا الحقل في مجلس إدارة شركة النفط الوطنية وسنبدأ العمل في أقرب وقت حيث أن الظروف جاهزة”.
وأعرب وزير النفط الكويتي، من جانبه، أنه “فوجئ” بالنوايا الإيرانية التي قال إنها “تتنافى مع أبسط قواعد العلاقات الدولية”، وفق ما نقلت عنه وكالة الأنباء الكويتية “كونا”.
و”المشكلة الحقيقية” وفق الباحث الاقتصادي المتخصص في شؤون الطاقة، عامر الشوبكي، أن الكويت والسعودية أعلنتا الاستثمار في هذا الحقل وبناء خطوط أنابيب لنقل الغاز من عرض البحر إلى الأراضي الكويتية السعودية، وفي نفس الوقت أعلنت طهران أنه معروض للاستثمار فيه عبر وزارة النفط.
وبينما تقول إيران إن أجزاء منه تقع في مياهها الإقليمية، تقول السعودية والكويت إن الحدود غير مرسمة وهذا الحقل يقع بالكامل ضمن المياه الإقليمية السعودية والكويتية المشتركة “وهنا نقطة توتر في الخليج” وفق الشوبكي.
أبعاد اقتصادية مهمة
ويوضح الشوبكي لموقع الحرة أن لهذا الحقل أهمية اقتصادية كبيرة، فهوي يحتوي على احتياطات من الغاز الطبيعي تقدر بنحو 11 تريليون قدم مكعب، وقرابة 300 مليون برميل من النفط، وهي “كمية غير بسيطة للكويت التي تقدر احتياطاتها حاليا بحوالي 35 تريليون قدم، أي أن الحقل يحوي حوالي 30 في المئة من احتياطاتها الحالية.
ومن المتوقع أن ينتج هذا الحقل بعد الاستثمار المشترك السعودي الكويتي، قرابة مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، و84 ألف برميل من النفط والمكثفات النفطية يوميا، وفق الشوبكي.
وللتقريب، يقول الباحث الأردني، إن هذه الكمية تعادل ثلاثة أضعاف حاجة بلد مثل الأردن، وتعادل صادرات إسرائيل من الغاز الطبيعي عبر مصر والأردن.
تصريحات في سياق إقليمي جديد
وجاءت تصريحات خجسته مهر، المدير التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية، في وقت عززت الرياض وطهران تعاونهما في أعقاب قرار مفاجئ باستئناف العلاقات تم الإعلان عنه في مارس، بعدما بقيت العلاقات مقطوعة بين الخصمين الإقليميين طيلة سبع سنوات.
وبعد أيام من المصالحة التاريخية بين إيران والسعودية في بكين، أجرت الكويت وإيران محادثات بشأن حدودهما البحرية في منتصف مارس.
وتقول مجلة إيكونوميست إن العلاقات المحسنة بين إيران من جانب، والكويت والسعودية من جانب، يمكن أن تعيد إحياء جهود إجراء محادثات مشتركة حول القضايا الحدودية.
وتشير إلى أن حل قضية ترسيم الحدود البحرية التي طال أمدها قد يؤدي إلى إزالة التوترات المحيطة بخطط المملكة والكويت تطوير الحقل، وقد تؤدي إلى زيادة صادرات الكويت من الغاز على المدى الطويل.
ويحذر الشوبكي من أن هذه القضية الخلافية قد تعوق تحسن العلاقات بين السعودية وإيران وقد تكون عقبة أمام للتطور الاقتصادي حديث العهد بين البلدين.
وينصح بضروة وجود تفاهمات حول هذه المخاطر والشروع في ترسيم الحدود ومن ثم اقتسام الاستثمارت في هذا الحقل بين الدول الثلاث إذا كان لإيران حق في أجزاء منه.
ويوضح أن احتياطات الغاز في الحقل مهمة للكويت التي تسعى لزيادة قدراتها الإنتاجية منه وتقليل فاتورة الاستيراد. ويوضح معهد الشرق الأوسط أن الكويت ستحتاج إلى 4.0 مليار قدم مكعب يوميا، بحلول عام 2030، لتلبية الاحتياجات المحلية.
وسيزيد إبرام اتفاق، وفق الشوبكي، قدرة إيران على الإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال، كما أن تسوية الملف تنسجم مع مساعي المملكة لزيادة إنتاجها من الغاز 60 في المئة وفق “رؤية 2030”.
وتشير إيكونوميست إلى أن الكويت ترغب “في الاستفادة من الوضع الجيوسياسي المعتدل بشكل متزايد في الخليج لتعزيز تطوير حقول الغاز البحرية”.
المحلل الإيراني علي نوري زادة، يرى في تصريحات لموقع الحرة أن القضية تحمل أبعادا اقتصادية لإيران، مشيرا إلى أنها ترغب في زيادة الإنتاج من منظورة اقتصادي بحت.
ويقول المحلل السعودي، مبارك آل عاتي، إن اتفاق المصالحة وتحسن العلاقات بين طهران والرياض كفيل بأن يؤدي إلى إجراء تفاوض لحل القضية، خصوصا أن التصريحات الإيرانية “ناعمة ونسبت لشركات التنقيب”، ما يعني أن إيران تريد أن توضح أن القضية لها أبعاد اقتصادية واستثمارية وليست سياسية.
ويرى آل عاتي أن تحريك إيران للقضية مجددا يأتي من رغبتها في تعطيل الاستثمارات السعودية والكويتية في هذا الحقل الغني بالغاز والنفط.
ويرى علي نوري زادة أن إيران أدركت جيدا أنه من المستحيل أن تهزم السعودية في العالم الإسلامي، وبعد سنوات من القطيعة تعرضت للأذى اقتصاديا، بينما السعودية لديها الأموال لتحمل أي أعباء مالية لسنوات. ويقول إن الإلحاح الاقتصادي دفع مرشد البلاد، علي خامنئي، نفسه ليفسح المجال أمام كبار المسؤلين لإتمام المصالحة.
ويوضح أن الخطاب الإيراني تغير كثيرا في وسائل الإعلام المحلية، التي كانت مليئة بالشتائم بحق السعودية قبل نحو عام فقط.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي الايراني، حسين رويران، أن احتمالات إبرام اتفاق حدودي قائمة بعد التقارب الأخير، مشيرا إلى ضرورة أن يستند على قانون البحار الذي ينظم بشكل واضح مسألة المياه الإقليمية للدول.
ويتوقع آل عاتي أن تؤكد السعودية على أن التفاوض على مائدة الحوار يكفي لحل القضية تحت مظلة القرارات الأممية وقاعدة حسن الجوار واحترام سيادة الدول التي كانت شرطا للاتفاق الموقع عليه في بكين وأنهى الخلاف السعودي الإيراني.
ويعتقد المحلل السعودي أن اتفاقا جديدا لترسيم الحدود “سيكون نافذة يتم من خلالها الولوج إلى خلق تفاهمات بين دول المنطقة لحماية الخليج من العودة إلى التوترات”.
ويشير إلى أن الزيارة التي قام بها المبعوث السعودي للكويت تلخص الموقف السعودي الكويتي وهو الوقوف بحزم لناحية حقوقهما في هذا الملف مع مد جسور التواصل مع كل الدول بما فيها إيران، وفي الوقت ذاته عدم التنازل عن حقوقهما فيه مع التأكيد على ضرورة ترسيم الحدود البحرية، وأن أي خلاف على هذا الحقل يجب ألا يؤثر على تحسين العلاقات وأن “يظل في إطار محدد غير قابل للتفجر لحماية السلام الذي بدأ ينتشر في المنطقة”.