«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا
هناك بيردمان عربي ولا أحد يعلم به. في فيلم محمد بن عطية الجديد «وراء الجبل» شخصية لرجل يلقي بنفسه من أعلى لأنه يستطيع الطيران. يقول في الفيلم: «الإنسان الأول كان يمشي منحنياً، لكن أحدهم سار مستقيماً فهاجموه ومن ثمّ أصبحوا جميعاً يسيرون مثله. كذلك الطيران. الإنسان يستطيع الطيران فعلاً».
ربما استطاع بطل «وراء الجبل» الطيران لكنه على عكس «بيردمان»، في فيلم أليخاندرو غونزاليز أيناريتو، لا يعرف كيف يحطّ، وكلما أراد العودة إلى الأرض سقط وبدا أنه ميّت.
يحكي المخرج بن عطية («لدي»، 2018) قصّة رجل يطير في الأجواء كلما أراد ذلك. لكن بعض طيرانه الأول يبدو كما لو كان محاولة انتحار. وليس واضحاً لماذا يكرر إلقاء نفسه من طوابق عليا لأن الحكاية الفعلية يمكن لها أن تبدأ بعد ثلث ساعة من الفيلم عندما يختطف رفيق (ماجد مستورة) ابنه من المدرسة ويتجه به في سيارته إلى منطقة جبلية بعيدة. هناك يتركه جالساً فوق صخرة ويصعد أخرى بعيدة ويقلع طائراً بين السماء والأرض. لكن سريعاً ما يعود للأرض مغشياً عليه. يتطلب الأمر قيام راعي غنم (سامر بشارات) بحمله على كتفيه وصولاً لداره حيث يُنعشه. رفيق بحالة جيدّة لكنه لا يزال يرتكب أخطاءً من بينها عدم امتثاله لحاجز أمني وانطلاقه بسيارته في دروب وعرة قبل أن تتوقف تلك السيارة تماماً وينطلق رفيق مع ابنه ياسين (وليد بوشوية) والراعي في الجبال. قبل انقضاء النهار يجدون بيتاً تعيش فيه عائلة تتألف من زوجين وأولادهما الثلاثة.
ما يحدث داخل البيت ينقل الفيلم إلى حالة تشويقية بين غزاة ومدافعين. الفريق الأول يسيطر على الثاني، ثم تنقلب الآية فإذا بأصحاب البيت يأخذون زمام المبادرة. يأخذ رفيق ابنه ويحلّق به. يكاد الولد الصغير أن يقع (كما كادت مارغوت كيدر أن تفلت من بين يدي سوبرمان عندما حلق كريستوفر ريف بها في «سوبرمان»، 1978). لكن الأب فطن ويلتقط ابنه قبل فوات الأوان.
ثغرات ومشاكل عدّة في هذا الفيلم. ما الذي يود قوله في نهاية المطاف ليس واضحاً. لن يخرج المشاهد ليقف على سطح منزله ويحاول التحليق في الفضاء. هذا في المفاد. في التفاصيل، فإنه كان من المهم أن نعرف لماذا ترك الراعي غنمه وانضم إليه في تلك الرحلة. هل كان بفعل رغبته الانضمام إلى رجل ليس له مثيل في العالم.
النواحي التقنية لا بأس بها لكن مثل هذا الإنتاج كان يحتاج إلى تمويل كافٍ للخروج من تجربة فيلم خيالي إلى فيلم خيالي ببصريات تناسب النوع.
كما طار وقع
هذا هو أحد الأفلام العربية القليلة في مهرجان «فينيسيا» للعام الحالي. وهو يشترك مع كثير من الأفلام العربية بأنه فيلم مهموم بقضايا أحياناً ما تكون اجتماعية وأحياناً ما تكون ذاتية (كحال هذا الفيلم). على ذلك، يسجّل للمخرج بن عطية أنه عرف كيف يستحوذ على الاهتمام ولو أن الفيلم بدا كما لو أنه يريد السير على الخط نفسه الذي ميّز أفلام المخرج التونسي الآخر علاء الدين سليم الذي ينجز أفلاماً غرائبية كان آخرها «آخر واحد فينا» سنة 2018.
ليس أن مهرجان «فينيسيا» يختار عدم عرض أفلام عربية (وتاريخه مليء بها)، لكن الذي حدث هذه السنة أن المنتجين الذين توجهوا في العام الماضي إلى صندوق دعم المشاريع المسمّى بـ«Final Cut» غابوا عنه العام الحالي بمجرّد انتهاء أفلامهم. بعضهم آثر استغلال فرصة مواتية لعرض فيلمه في مهرجان «كان» (الذي انتهز الفرصة وجمع شمل ما لا يقل عن خمسة أفلام عربية هذه السنة)، وبعضهم الآخر فضّل التوجه إلى مهرجان «تورونتو».
فيلم آخر آت من العالم العربي عرض هنا هو «باي باي تبرياس» للينا سويلم.
فيلمها هو مزج بين وثائقيات وبين دراميات الوضع الذي خلّفته الأوضاع الفلسطينية عبر عقود. تسعى المخرجة للحديث عن فلسطين كما كانت، وعن الفلسطينيين كما أصبحوا شتاتاً في أوطان أخرى. لا تفتعل هذا الحديث لأنها تتناول تجربة شخصية متقصّية أربع نساء يمثلن عدة أجيال توارثت العيش بعيداً عن وطنها الأم.
مدينة على نار
المسابقة التي ينتمي إليها هذا الفيلم (مسابقة تظاهرة «آفاق») تحتوي على الكثير من الأفلام التي تستدعي الانتباه وبعضها يستحق فوزاً مناسباً، كذلك الحال بالنسبة لأفلام المسابقة، علماً بأن الكثير مما كان منتظراً منه أن يقود التوقعات لم يفعل ذلك بل انضم للسائد من الأفلام ذات المستوى الجيد، لكنها ليست فائقة الجودة. هذا ما يجعل المسابقة صعبة المراس وفرص الفوز فيها مجهولة.
هناك فيلمان عن الجريمة. واحد بإطارها المجتمعي الواسع والثاني ضمن شخصية فرد واحد آل على نفسه القتل مقابل المال. لا يهم على من يطلق النار ولماذا، فهو، كما يقول في الفيلم، لا يتبع إلا مصلحته.
الفيلم الأول «من ريطالا» أخرجه ستيفانو سُليما (هل الأصل سُليمة؟) العائد من هوليوود بعدما حقق فيها فيلمان هما «سيكاريو 2» (2018)، و«بلا ندم» (Without Remorse) (2021). عودة حميدة لأن سينماه الإيطالية تحتاج إليه أكثر من سواها. الفيلم هو «أدجيو» المشترك في المسابقة. ما يكشف عنه الفيلم موهبة سُليما في تأطير الأحداث بمواقعها وديكوراتها الطبيعية. هذا رغم أن الفيلم كان يحتاج لمواقع أكثر لأجل منع تداول الأماكن على نحو متكرر.
لدى سُليما معرفة بالبيئة التي يتحدّث فيها وعمق فيما يطرحه. يتبدى هذا العمق من اللقطة الأولى: لقطة فوقية بعيدة لطريق مزدحمة بالسيارات. في الأفق، وعلى مساحة واسعة، هناك حريق عند أطراف المدينة. بهذا، دمج المخرج القصّة التي سيعرضها بالرمز المتوخى من تلك النار البعيدة ذات الأفق العريض. بذلك أيضاً يؤسس لأجواء الحكاية التي سيعرضها.
القصّة بحد نفسها لا تمتد لتغطي مساحة الفيلم. هي حبكة حول الشاب الذي يلجأ إلى العصابة الخطرة لكي تساعده في مواجهة أفراد شرطة فاسدين يريدون ابتزازه. لكن هذه الحبكة متشعبة بمفارقات وأحداث أخرى تمنحها حياة خارج الخط الرئيسي الذي تنطلق منه. العلاقات بين الشخصيات غير الملتئمة في عالم الجريمة الداكن. كثيرة هي اللقاءات بين أناس ترغب في النجاة بنفسها وأخرى تحاول المساعدة، لكنها مرتبطة بدورها بذلك الوضع السوداوي لما تعنيه كلمة جريمة.
ما كان الفيلم بحاجة إليه هو صياغة مختلفة لهذا السيناريو، كفيلة بجعل المشاهد على معرفة أوثق بما تمثّله تلك الشخصيات ولماذا تأتي رهاناتها خاسرة.
ليس بطلاً ولا ضد البطل
الفيلم الآخر هو «القاتل» (The Killer) للأميركي ديفيد فينشر وحققه لصالح الفيلم الأول «من ريطالا» الذي أخرجه ستيفانو سُليما «نتفليكس» (كحال فيلم «إل كوندو» لبابلو لاران المشترك كحال «أدجيو» في المسابقة الرسمية).
القاتل هنا فردي الشأن لا علاقة له بالعصابات ولا يهتم إذا ما كان الفساد (أخلاقياً أو مادياً) مستشرياً بين الشرطة أو سواهم. كل ما يهمّه هو تنفيذ المهام المسندة إليه بنجاح لكي يقبض أجره وانتظار المهمّة التالية.
شيء مثير للدهشة يحدث هنا: الفصل الأول من المشاهد هي، من تعليق صوتي لهذا القاتل الذي لا نسمع اسماً واحداً له، بل عدة أسماء يستعملها كلّما طار من مدينة لأخرى. يقول صاحب الصوت (مايكل فاسبندر) إن هناك شروط عمل تمنحه ما بلغه من شأن وقوّة في عالم الجريمة. يبدأ بتعدادها… أشياء مثل الانتباه إلى التفاصيل والتركيز على الخطة الموضوعة وعدم السماح بأي تعديل لها.
المهمّة المسندة إليه تقع في باريس حيث سيقوم القاتل بقنص رئيس جمهورية ما. يراه بوضوح. تدخل امرأة لتشكل حاجزاً بينه وبين الضحية. يصبر. تنحني ثم تقف فجأة بعدما أطلق الرصاصة لتقع مقتولة. مشاهد الهرب من فرنسا وكيفية تصرّفه لإخفاء كل معالم الجريمة مثيرة، كذلك باقي الأحداث التي يجد نفسه فيها في سعي للانتقام من قتلة صديقته لسبب لن يعرفه إلا لاحقاً.
الغاية من الفيلم هي تقديم بطل ميكانيكي التفكير. منهجي التصرف. يعرف كل شيء. يضع لنفسه كل تلك الشروط، لكنه لا يتصرّف دوماً بنصوصها. هو شيء متطوّر من شخصية تشارلز برونسون في فيلم مايكل وينر «الميكانيكي» (1972).
ذلك الفيلم كان ركيكاً وفقيراً في جميع نواحيه الفنية، لكنه يشترك مع هذا الفيلم في أن بطله يتبع الـMethod الخاصة لتنفيذ جرائمه. هذه هي نقطة اللقاء الوحيدة كون المخرج فينشر أكثر وعياً من أن يقدّم فيلماً ليس ذا مستوى. على ذلك، تخون بعض التفاصيل النوايا الحسنة. أحد نجاحاته أن الشخصية تبقى رمادية لا تكشف الكثير عن نفسها. هي ليست بطلة ولا يمكن اعتبارها مناوئة للبطولة. شخصية تقودنا بنجاح للحكاية التي تقع معها لكنها لا تكترث إذا ما أعجبنا بها أم لا.