التخطي إلى المحتوى

مارلين سلوم

«تشارلي ومصنع الشكولاته»، «ماتيلدا»، «ذا بي إف دجي»، وغيرها من القصص التي عشقها الأطفال والكبار أيضاً، وأحببناها حين تحولت من كتب ورقية تحمل توقيع الكاتب البريطاني الشهير رولد دال إلى أفلام ناجحة جداً، وتنافَس المخرجون في التفنن سينمائياً في تقديم أفكار هذا المؤلف «غير التقليدية» والجاذبة لكل الفئات العمرية ولكل الأذواق.. لكن المغامرة الحقيقية، هي تلك التي أطلقتها شبكة «نتفليكس» حديثاً بتعاونها مع المخرج غير التقليدي أيضاً، ويس أندرسون لتقديم أربعة أفلام قصيرة على مدى أربعة أيام، تم اختيارها من القصص الأقل شهرة لهذا المؤلف والأقصر من حيث طول القصة وبالتالي طول مدة الفيلم، ونتوقف عند أولى تلك الأعمال «ذا واندرفول ستوري أوف هنري شوجر» المعروض حالياً والذي لا يتجاوز 37 دقيقة، من الإبداع الفني والابتكار المدهش.

البطل هنري شوجر والذي أداه بنديكت كومبرباتش بأسلوب شديد التميز، ليس البطل الوحيد أو الأول، فكل الممثلين أبطال ومتألقين بأداء صعب ومسرحي لا يجيده إلا المتمرس في التمثيل والشديد الموهبة.. والمخرج في هذا العمل هو بطل أيضاً، استطاع أن يقدم قطعة فنية لا تشبه الأفلام التي نشاهدها على الشاشة عادة، ولا تشبه أياً من إنتاجات نتفليكس السينمائية، وقد استطاع أن يمنح الرواية القصيرة وربما الأقل قراءة من بين روايات رولد دال حياة وانتعاشة تليق بهذا المؤلف المختلف والذكي والذي اشتهر بأنه يحث الأطفال على إعمال العقل والتفكير في كل قصصه.

لا تتوقع أن تشاهد فيلماً عادياً، ولا فيلماً جميلاً أو جيداً والسلام؛ بل خذ حذرك إلى أنك ستكون على الاستعداد لعيش التجربة بكل حواسك، والتركيز بكل كلمة ولقطة، كي تستمتع بالمشاهدة وتحب القصة والفيلم ونجومه، وكي تفهم الأحداث وما يفعله الأبطال، لأنك أمام قصة غير مألوفة، صحيح أن اسم المؤلف رولد دال ارتبط في أذهان الناس بعالم الأطفال، وصحيح أنه تم تحديد الفئة العمرية التي يمكنها مشاهدة هذا العمل، سبعة أعوام وما فوق، إلا أن الفيلم يفاجئك بأنه أشبه بالقطعة الفنية الفلسفية، أخرجها ويس بأسلوب مسرحي، عدد الأبطال قليل ومحدود، كل بطل يؤدي دورين على الأقل، النص منقول من الكتاب بحرفيته تقريباً، والأبطال يتحدثون إلى المشاهد ويروي كل منهم ما حصل وهو ينظر إلى الكاميرا، وحتى المقاطع الحوارية تركها كاتب ومخرج الفيلم ويس أندرسون بنفس ترتيبها أي تسبقها أو تليها كلمة «قال».

37 دقيقة غنية بالحركة والسرعة في الإيقاع وتوالي الأحداث فتشعر بأنها تمر سريعة وفي نفس الوقت غنية دسمة سواء من حيث الأداء أو الحركة والتنقل وتغيير الديكور والملابس ومرور الزمن، إضافة إلى السرعة في الكلام، لدرجة أنك تحتاج إلى إعادة بعض المشاهد أو إعادة مشاهدة الفيلم على الرغم من قصر مدته كي لا تفوتك تفصيلة ولو صغيرة منه.

هي ليست التجربة الأولى للمخرج الحائز جوائز عالمية عدة عن بعض أفلامه منها الأوسكار، مع روايات دال، فقد سبق أن قدم «ذا فانتاستك مستر فوكس»، لكنه فيلمه الأول على «نتفليكس»، المنصة التي اشترت عام 2021 حقوق روايات رولد دال لتقديمها في أعمال سينمائية، مقابل مبلغ ضخم بلغ 686 مليون دولار، لذلك يعتبر «هنري شوجر» بداية الغيث تأتي من بعده أفلام «ذا سوان»، «ذا راتكاتشير» و«ذا بويزن».

لأول مرة نرى تجسيداً لشخصية الكاتب رولد دال، وقد أداه هنا رالف فينيس، وستلاحظ أن كل الممثلين هم نجوم من الصف الأول والمحبوبين جماهيرياً، فتتعجب كيف ارتضوا أن يؤدوا أدواراً في فيلم قصير والمفترض أنه للأطفال، وأن يؤدي كل منهم شخصيتين؟ وحين تشاهد الفيلم تفهم أنهم أجادوا الاختيار لأن العمل استثنائي، والمخرج استثنائي.

يبدأ الفيلم بمشهد يتحدث فيه الكاتب عن نفسه وهو جالس في «كوخ الكتابة» كما أطلق عليه، وهو كوخ حقيقي اختاره دال في منزل الغجر في ميسندن في باكينغهامشير، وكتب فيه رواية «ذا واندرفول ستوري أوف هنري شوجر» بين فبراير وديسمبر 1976، (توفي رولد دال في نوفمبر 1990).

«أقيم في هذا الكوخ منذ 30 سنة»، بهذه الكلمات يبدأ الفيلم، حيث نرى المؤلف يحكي قصته، كيف وأين ومتى بدأ يكتب قصة هنري شوجر، الشخصية الحقيقية، ويخبرنا دال كيف يستعد للكتابة، واضعاً كل أدواته بجانبه حتى قطع الشكولاته وستة أقلام رصاص والسجائر والقهوة.. هنري شوجر كان رجلاً عازباً، 41 سنة ولا يفكر في الزواج، ثري لأن والده كان ثرياً، لم يعمل يوماً في حياته، وكمعظم الأثرياء كان بخيلاً على الرغم من اهتمامه بمظهره وملابسه.. ويقول دال إن أمثاله كثر، ليسوا سيئين ولا طيبين.

هنري شوجر رجل أنيق يكتشف في المكتبة دفتر ملاحظات كتبه الدكتور تشاترجي (ديف باتيل)، دوّن فيه تقريراً عن إمداد خان (بن كينجسلي)، المعروف أيضاً باسم «الرجل الذي يمكنه الرؤية دون استخدام عينيه». نعود إلى الثاني من ديسمبر 1935، حيث يروي الدكتور تشاترجي كيف كان يجلس مع زملائه الأطباء في المستشفى حين دخل عليهم رجلاً يدعي أنه يستطيع رؤية كل شيء دون الحاجة إلى النظر بعينيه، ويطلب منهم أن يعصموا عينيه بقوة كي يثبت لهم وللعالم، حيث سيقدم استعراضاً، أنه يرى كل شيء حتى من خلف القناع.. وهو ما يحصل بالفعل، ويكتشف هنري شوجر، أن وراء هذه الحيلة رياضة التأمل، فيمارسها إلى أن يتمكن من رؤية الأشياء دون النظر إليها، ويستغل هذه «الميزة» في لعب الميسر فيربح مبلغاً كبيراً من المال يقرر التبرع به للناس.

أندرسون يقدم أبطاله بأكثر من شخصية، بنديكت هو هنري شوجر حيناً والماكيير حيناً آخر، بن كينجسلي هو إمداد خان وموزع الورق في الصالة في مشهد آخر، رالف فيين هو المؤلف دال والشرطي، ديف باتيل يلعب دوري الطبيب وجون وينستون المحامي وشريك هنري شوجر في تأسيس دور للأيتام ومستشفيات حول العالم، وريتشارد أيودي هو الطبيب مارشال والرجل مدرب اليوغا..

لا يمكن أن تكون كلفة إنتاج هذا الفيلم عالية جداً، لأنه أقرب إلى المسرح وتقنياته من قربه من الأعمال السينمائية التي تتطلب مبالغ ضخمة نظراً إلى كلفة المعدات والأبعاد وتغيير مواقع التصوير وأعداد العاملين والكومبارس.. هنا حصر أندرسون العمل بعدد محدود جداً، التصوير واضح أنه داخل الاستوديو، ومتعمد أن يبدو كذلك تماماً كأنك تشاهد مسرحية، الممثلون يؤدون أدوارهم على الخشبة والديكور يتغير في الخلفية، والأجمل أن المخرج يتركنا نشاهد كيفية تبديل الديكور أمامنا، عمال يدخلون لاستبدال القطع واللوحات، والانتقال من مكان إلى آخر بالإيحاء والشكل والألوان فقط، لكن هذا لا يعني أن الديكور ليس مميزاً؛ بل هو رائع ومبتكر خصوصاً مشهد الانتقال من الصالة إلى غرفة المكتب المسيجة جدرانها بالكتب وبابها خشبي عتيق.

[email protected]