وبينما كانت أميركا تنتظر اللحظة التي ستتحول فيها هواوي، من عملاق تكنولوجي إلى شركة محدودة القدرات بفعل القيود والعقوبات، حدث ما لم يكن في الحسبان، مع إعلان الشركة الصينية عن سلسلة هواتف Huawei Mate 60 الجديدة، التي تبين أنها تحتوي على معالج Kirin 9000s المُصنّع بدقة 7 نانوميتر، والذي يدعم تقنية الجيل الخامس، حيث كان هذا الخبر كفيلاً بإحداث هزة كبيرة في العالم التقني وصلت ارتداداتها إلى واشنطن.
ويعود السبب الأساسي لحالة الصدمة التي تسببت فيها شريحة Kirin 9000s، إلى كيفية تمكن هواوي، وبمساعدة من شركة SMIC، من تخطي الكم الهائل من القيود الأميركية المفروضة عليها، وعلى الدولة الصينية، والوصول إلى قدرات متطورة في صناعة المعالجات، في وقت كانت تحرص أميركا وعلى مدار 4 سنوات، على اتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بمنع أي طرف صيني، من اكتساب قدرة ذاتية على إنتاج معالج متطور.
فمن خلال القيود، حاولت أميركا إبقاء الصين متخلفة عنها بنحو 8 سنوات في صناعة المعالجات، عبر إيقافها عند دقة تصنيع 14 نانوميتر، لتأتي هواوي وتضع جميع الجهود الأميركية في مهب الريح، مع تمكنها وبالتعاون مع شركة SMIC، من الوصول إلى دقة 7 نانوميتر، ما قلّص نسبة تأخر الصين عن التكنولوجيا الأميركية الأكثر تقدماً، وهي 3 نانوميتر إلى خمس سنوات.
مصممو الشريحة تجمعهم اللائحة السوداء
وتم تصميم شريحة Kirin 9000s في قسم شرائح HiSilicon التابع لشركة هواوي، في حين تكفلت شركة Semiconductor Manufacturing International Corp أو SMIC الصينية بعملية إنتاجها، حيث تكمن المفارقة في أن الشركتين أي هواوي و SMICتجمعهما اللائحة السوداء الأميركية للشركات الصينية المعاقبة، الأمر الذي دفع أميركا إلى الإعلان عن إجرائها عملية تدقيق للطريقة التي صُنعت فيها الشريحة الجديدة، وذلك لمعرفة ما إذا كانت الشركتان الصينيتان، استغلتا نقاط ضعف في القيود الأميركية، أم أنهما اكتسبتا بالفعل قدرات ذاتية مكنتهما من تحقيق هذا الاختراق الكبير.
الآلة الهولندية الممنوعة
وفي عالم صناعة المعالجات الإلكترونية، كلما كان رقم النانوميتر أقل، كان المعالج أقوى وذات قدرات أكبر، حيث يؤدي تقليل حجم النانوميتر إلى إنتاج شرائح أكثر قوة وكفاءة، فمحاولة أميركا إيقاف صناعة المعالجات الصينية عند دقة تصنيع 14 نانوميتر، جاء ليحرم المنتجات إمكانية دعم تقنية الجيل الخامس.
ولسنوات عديدة، كافحت شركة SMIC الصينية لإنتاج رقائق بدقة 7 نانوميتر، إلا أنها لم تتمكن من ذلك بسبب حرمانها من شراء جهاز باهظ الثمن، وحاسم للغاية في هذه الصناعة، يسمى آلة الطباعة الحجرية فوق البنفسجية القصوى (EUV).
وهذه الآلة تصنعها شركة ASML الهولندية، التي تم منعها هي أيضاً من قبل الحكومة في البلاد، وبموجب طلب أميركي من إرسال أي جهاز من هذا النوع إلى الصين، حيث اعتقد الكثيرون أن هذا القرار وضع المسمار الأخير في نعش صناعة الرقائق الصينية المتقدمة.
ومع بداية شهر سبتمبر 2023 حدث ما لم يكن في الحسبان، مع الإعلان الصيني عن شريحة الـ 7 النانوميتر، وهو الأمر الذي خلق حالة كبيرة من الجدل، حول الطريقة التي تمكنت فيها صناعة أشباه الموصلات في الصين، من تحقيق هذا الإنجاز، دون الحصول على آلة الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية.
كيف حصل الاختراق؟
من منظور تكنولوجي، لا أحد يعلم حتى الساعة، ما الذي فعلته شركتا SMIC وهواوي لتصنيع شرائح باستخدام تقنية 7 نانوميتر، فهل تمكنتا من الاستحصال بطريقة ما على الجهاز الهولندي؟ أم أنهما ابتكرتا طريقة جديدة ومختلفة لتصنيع الشرائح بدقة 7 نانوميتر؟
وفي الوقت الذي ينتظر فيه العالم نتائج التحقيق الأميركي بهذا الشأن، شكك البعض في قدرة هواوي على إنتاج كمية كبيرة من الهواتف التي تحتوي على معالجات Kirin 9000s، إلا أن بيانات شركة Counterpoint للأبحاث أظهرت عكس ذلك، فهواوي تمكنت من بيع أكثر من 300 ألف وحدة من سلسلة هواتف Mate 60، المدعومة بالشريحة الجديدة وذلك خلال أول أسبوعين من إطلاقها في الصين.
ووسط هذا الضجيج العالمي حول الشريحة الجديدة، تلتزم شركة هواوي بصمت مطبق ومقصود، في حين تعمد الشركات الأجنبية إلى تفكيك الهاتف والتدقيق في محتوياته، وخاصة شركة TechInsights التي أظهرت أحدث جولاتها في عمليات تفكيك Mate 60، أنه ودون أدنى شك قادر على تحقيق سرعات خلوية تدعم الجيل الخامس.
قوة مخيفة لا يمكن للعقوبات ردعها
يؤكد خبير التحول الرقمي رودي شوشاني في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الاختراق التكنولوجي الذي حققته هواوي وSMIC هز واشنطن، حيث لم تدخر الإدارة الأميركية خلال السنوات الأربعة الأخيرة، أي جهد لمنع حصول الصين على أي تقنية جديدة في صناعة المعالجات وأشباه الموصلات، ليتبين لها الآن أن جميع جهودها ذهبت سداً، معتبراً أن عودة هواوي للظهور بقوة في المشهد التكنولوجي العالمي، سيشكل كابوساً للإدارة الأميركية، خاصة أن واشنطن ستعتبر الآن أن هواوي تجاوزت الخطوط الحمراء بما قامت به.
ويرى شوشاني أن احتمال أن تكون هواوي قد استغلت نقاط ضعف في الاستراتيجية الأميركية، لتقييد حصول الصين على تكنولوجيا حديثة، في صناعة الشرائح الإلكترونية هو أمر وارد، ولكن المخيف بالنسبة لأميركا، هو أن يتوصل التحقيق بشأن شريحة Kirin 9000s إلى نتيجة مفادها أن هواوي وSMIC تمكنتا فعلاً من ابتكار طريقة جديدة لتصنيع الشرائح دون الحاجة إلى التكنولوجيا الأميركية وللآلة الهولندية، وهذا يعني أن تحالف هواوي وSMIC تحول إلى قوة مخيفة، لا يمكن للعقوبات ردعها، خاصة أن الصين تمتلك الاكتفاء الذاتي من ناحية المواد التي تحتاجها في عملية تصنيع المعالجات.
وبحسب شوشاني فإن الولايات المتحدة ستلجأ إلى إعادة النظر في قيودها السابقة، المتعلقة بصناعة المعالجات وأشباه الموصلات الصينية، متوقعاً اتخاذها لقرارات أكثر تشدداً وقسوة في هذا المجال، قد تصل إلى حد فرض القيود على عملية تصميم الرقائق، وليس فقط تصنيعها، خاصة أن هواوي وSMIC أصبحتا تمسكان بطرف الخيط في هذه الصناعة، ما يعني أن الخطوة المقبلة لهما في هذا المجال ستكون أسرع، ولذلك يجب على أميركا وفي حال أرادت الحد من سرعة التقدم الصيني، أن تواكب ذلك بإجراءات عقابية قاسية، وهو ما سينعكس – حكماً – توتراً جديداً في العلاقات بين البلدين.
السر في سلاح الابتكار
من جهته يقول الخبير التقني إيلي خوري في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هواوي ومن خلال معالج Kirin 9000s فتحت صفحة جديدة في هذه الصناعة، عنوانها تحقيق الصين للاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الغرب، مشيراً إلى أن ما حصل أثبت سقوط الاستراتيجية التي كانت مبنية على افتراض أن الضوابط الأميركية ستمنع الشركات الصينية من إنتاج الرقائق المتقدمة، حيث بات من الواضح أن هذا النهج فاشل لسبب رئيس وهو قدرة الشركات الصينية على ابتكار الحلول.
وأكد خوري أن أي قيود أو ضوابط أميركية جديدة في هذا الخصوص، لن تتمكن من خنق هواوي التي أنفقت أكثر من 140 مليار دولار أميركي، على مدار السنوات العشر الماضية على عمليات البحث والتطوير، وهذا ما مكنها وسيمكنها مراراً من الوصول إلى تكنولوجيات جديدة، تتخطى فيها أي عقوبات يتم فرضها عليها، فالابتكار يعد بمثابة مقبرة للعقوبات والقيود، معتبراً أن التطور الذي ستحققه هواوي مستقبلاً لن ينحصر في الرقائق ولكن أيضاً في مجالات أخرى كثيرة.
وبحسب خوري فإن الرقائق هي شريان الحياة في العالم الحديث، إذ تستخدم في كل شيء من الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب، إلى السيارات والطائرات وأنظمة الصواريخ، وفي حين كان الهدف الأميركي هو إصابة الشركات الصينية بالشلل، عبر منعها من تصنيع أو الحصول على رقائق متطورة، انقلب الوضع بين ليلة وضحاها، وهذا ما يفسر ذهول العالم بشريحة كيرين 9000 إس، فالأمر لا يتعلق بهواوي فقط، بل بتحقيق الصين لاختراق تكنولوجي سيضمن لها أمنها القومي.