ما زلت أذكر أنك مررت بنا يوماً عابراً. ثم باغتّنا بالرحيل! فكيف رتّبت رحلتك الأبدية على غفلة منا؟ هل كنت تعرف أنك راحل فتريثت قليلاً، ثم باغتّنا بالرحيل؟ وهل كنت اعتقدت أن مجد الموت أعلى في أعراف بعض العرب من مجد الحضور في الحياة، فاخترت الموت الذي قد يسمو على أوجاعنا، وذهبت في الهجر إلى التوحد بالتراب؟
أيها الشاعر كريم العراقي، هل كنت تعرف أننا قوم قد نجعل من حياة الحي وهماً وضياعاً ومتاهاً وسراباً، ثم نتوب إن صار الموت عقاباً؟ وكنت تعرف أن في الغربة أوطاناً وفي الأوطان نسياناً وتهميشاً وأشكال اغتراب؟ فهل كنت تعرف هذا، فاخترت الموت لكي تحيا. واخترت التراب لكي تعلو، واخترت الغياب لكي تُذكر؟
لكنْ أيها الشاعر، الذين أحبوك أرادوك حياً وبهياً وقوياً تتحدى موتك، والموت الذي قد يأخذهم في كل حين!
لقد كنت تعرف أن الشعر لحن كل شاعر في قامة روحك، وهو سحر ورقي للمحبة والحياة. يا صديقي، نحن لم نحتج موتك، نحن قد نحتاج موتاً آخر لأناس جعلوا من راية الموت شعاراً فوق رايات الحياة.
يا شقيق الكلمات، أنت كنت تدري أن موت الشعراء مثل موت الورد في أوج الربيع، مثل موت الطفل في أوج المخاض، مثل نضوب الماء في الأنهار، مثل كسوف الشمس في أوج النهار، مثل موت النسغ قبل أن يوقظ آلاف الحقول، مثل ريح عاصف يقتلع الجذر ويلقي بقناديل المساء إلى عتم الذهول، فلماذا اخترت موتك قبل أن يكتمل الفصل، ويعد العمر دورات الحياة؟!
يا صديقي، أنت إن شئت أن تموت فمت قليلاً، وانتفض في دمنا، في غناء الروح، في نسوغ الكلمات، في اخضرار العشب، في رنين الوتر الخافت إذ يهمس للنشوة أن تنهض، وللصبايا في احتدام الحب، لمواعيد اللقاء التي انتظرناها ولم يأتِ الربيع.
أيها الشاعر، انهض الآن، فلماذا اخترت موتاً تاركاً ظلاً من الحزن على أرواحنا، وبقايا حلم لم يكتمل؟! ولماذا رتبت الرحيل بصمت مبدع مثلما عشت بصمت مبدع، وتركت لنا سوطاً من الحسرة يلهب قلوبنا؟!
يا صديقي، أنت تدري كم من الصعب علينا أن ننساك ونجتث جذراً ضارباً في تواريخ الشعراء كمن يحتزُّ وريداً موغلاً في دمه.
ربما نرثيك بالشعر أو السرد في إعلامنا، هل سترثينا أنت في قبرك، بالشعر أو بالسرد، وتشكو حالنا؟!