- Author, سمية نصر
- Role, بي بي سي نيوز عربي
تابع العالم تفاصيل الكارثة الإنسانية والدمار الهائل الذي خلفه الزلزال القوي الذي ضرب المغرب صباح يوم الثامن من سبتمبر/أيلول الحالي، بفضل وسائل الإعلام الحديثة والإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.
لكن تلك الوسائل لم تكن متاحة في منتصف القرن الثامن عشر عندما وقع زلزالان عنيفان وتسونامي في المغرب.
وربما تكون قد مرت سنوات عديدة قبل إدراك الآثار الهائلة لتلك الكارثة الطبيعية التي، فضلا عما تسببت فيه من خسائر بشرية ومادية جسيمة، كان لأحد الزلازل فيها وهو المعروف بزلزال لشبونة الذي ضرب البرتغال أساسا توابع علمية وفلسفية ودينية وسياسية على القارة الأوروبية بأسرها.
“زلزال لشبونة الكبير”
في صباح الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1755 الذي يوافق احتفال الكنيسة الكاثوليكية بعيد جميع القديسين، تعرضت البرتغال لزلزال يعتبر واحدا من أقوى الزلازل في تاريخ أوروبا والعالم. الزلزال أسفر عن مصرع عدد من الأشخاص يصل إلى 60 ألف شخص، وفق بعض التقديرات، في مدينة لشبونة وحدها، التي تعرضت غالبية مبانيها للدمار.
الكارثة الطبيعية التي ألمت بـ البرتغال لم تتوقف عند حد الهزات الأرضية، بل أعقبتها أمواج مد عاتية “تسونامي”. كما أنها لم تقتصر على البرتغال، بل امتدت آثارها إلى منطقة شمال أفريقيا، حيث تسبب الزلزال والتسونامي في خسائر بشرية ومادية فادحة في المغرب على وجه الخصوص.
ويقدر علماء الزلازل والجيولوجيا اليوم شدة “زلزال لشبونة الكبير” كما يطلق عليه البعض بنحو 8.5 إلى 9 درجات على مقياس مومنت (الذي يستخدم لقياس الزلازل التي تزيد قوتها عن 8 درجات)، ويُعتَقد أن مركزه كان في قاع المحيط الأطلسي، على بعد حوالي 320 كم من لشبونة.
وكانت هناك ثلاث هزات أرضية وقعت في غضون نحو عشر دقائق. وتشير تقارير إلى أن تلك الهزات، فضلا عن حركة الأرض التي صاحبتها، استمرت نحو ثلاث دقائق ونصف. وظهرت تصدعات أرضية بلغ عرض بعضها أربعة أمتار ونصف في وسط لشبونة.
في ذلك العام، كانت لشبونة مدينة ثرية مزدهرة تشتهر بكونها منارة للثقافة. كانت من أجمل المدن الأوروبية، وكان يبلغ عدد سكانها 275 ألف نسمة. في غضون دقائق، تحولت غالبية مباني عاصمة الإمبراطورية البرتغالية العريضة إلى حطام.
عند وقوع الزلزال، كان غالبية أهل المدينة يصلّون في كاتدرائيات ضخمة انهار معظمها، مما أسفر عن مصرع الآلاف. وسرعان ما اندلعت الحرائق في مختلف جنبات المدينة، وظلت ألسنة اللهب مستعرة على مدى خمسة أيام أدت إلى تدمير ثلثي لشبونة وفق بعض المصادر.
وبعد حوالي 40 دقيقة من وقوع الزلزال، التهمت موجات التسونامي التي ضربت سواحل البلاد الرصيف البحري المبني بالرخام في نهر تاجة (تاجوس)، كما أغرقت مئات الأشخاص الذين اكتظوا في قوارب هربا من الزلزال ومن النيران التي اشتعلت في المنازل.
لم تكن لشبونة المدينة البرتغالية الوحيدة التي تضررت من الكارثة، بل امتد الدمار الناتج عنها إلى غالبية مناطق الجنوب، ولا سيما منطقة الغارف (الغرب) حيث دمرت موجات التسونامي التي بلغ ارتفاع بعضها ستة أمتار بعض قلاعها الساحلية وبعض منازلها.
كما سافرت تلك الأمواج إلى سواحل كل من إسبانيا والمغرب، بل وهناك روايات تاريخية تشير إلى أنها أحدثت دمارا جزئيا في إحدى حوائط مدينة غالواي المطلة على الساحل الغربي لأيرلندا، وأدت إلى ارتفاع منسوب مياه البحر في جزر أنتيغا ومارتينيك وباربادوس بمنطقة الكاريبي.
كيف تأثر المغرب بتلك الكارثة الطبيعية؟
بالإضافة إلى الدمار الهائل الذي أحدثه الزلزال في البرتغال، كانت تلك الكارثة مدمرة بشكل خاص في المغرب، حيث يقدر عدد ضحايا الهزات الأرضية في المغرب بنحو 10 آلاف قتيل. وتشير سجلات تاريخية إلى أن مدن الرباط والعرائش (Larache) وأصيلة وأغادير وفاس ومكناس ومراكش تعرضت لخسائر فادحة. فقد تهدمت المساجد والمعابد اليهودية والكنائس وغيرها من المباني في مكناس، فضلا عما تكبدته المدينة من خسائر في الأرواح.
كما تسببت موجات التسونامي في الكثير من الخسائر البشرية في الساحل الغربي للمغرب، من طنجة إلى أغادير.
ولم يكن ذلك الزلزال الوحيد الذي تعرض له المغرب في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1755، بل تلاه زلزال آخر اختلفت المراجع التاريخية حول تاريخه (المراجع الأوروبية تشير إلى أنه وقع في الـ 18 من الشهر، في حين أن المراجع العربية تتحدث عن اليوم الـ 27 من الشهر ذاته).
ويعتقد أن شدة الزلزال الثاني، الذي سمي “زلزال مكناس”، بلغت ما بين 6.5 إلى 7 درجات على مقياس ريختر، وأنه أدى إلى تدمير مدينتي فاس ومكناس، وقُدر عدد ضحاياه في المدينتين بنحو 15000 قتيل.
وقد أشارت بعض التقارير الأوروبية إلى أن الزلزال ربما كان هزة ارتدادية قوية لزلزال لشبونة، لكن أبحاثا علمية حديثة أشارت إلى أنه لم يكن له علاقة بزلزال عيد جميع القديسين.
نتائج علمية
يعود اهتمام العلماء بالزلازل لقديم العصور، وهناك سجلات تاريخية من الحضارات الإغريقية والرومانية والصينية القديمة تتناول تكهنات للأسباب المحتملة لوقوعها.
ولكن زلزال لشبونة عام 1755، الذي تزامن مع ازدهار العلوم في أوروبا بشكل عام، أعطى حافزا كبيرا للعلماء والفلاسفة لمحاولة فهم طبيعة الزلازل وأسبابها.
ومن بين أولى الاستجابات، أعمال الطبيب والعالم الإنجليزي جون بيفيس (John Bevis) الذي حرر كتابا بعنوان “تاريخ وفلسفة الزلازل” (The History and Philosophy of Eathquakes) الذي صدر عام 1757.
يحتوي الكتاب على عدد كبير من الأوراق المكتوبة عن الزلازل وأسبابها. وقد تضمنت النسخة الثانية منه والتي نشرت في عام 1760 أعمال الفيلسوف والعالم الإنجليزي جون ميتشيل (John Mitchell) الذي ذكر أن الزلازل تتسبب فيها حركات في باطن الأرض ناتجة عن “التحرك المفاجئ لكتل صخرية توجد على بعد أميال تحت سطح الأرض، وربما كان أول من يطرح فكرة أن ظاهرة التسونامي تنتج عن زلزال يقع مركزه تحت سطح البحر.
وتعتبر تلك الأعمال بمثابة خطوات مهمة على طريق فهم واحدة من أكثر الظواهر الطبيعية تدميرا.
زلزال فكري وديني وسياسي
لطالما كان للكوارث الطبيعية دور في تغيير معالم الحياة الجغرافية والطبيعية في مناطق عديدة من كوكبنا عبر التاريخ، ومن ثم فإنها تؤثر على أنماط حياة البشر، بل وقد تمحو مراكز حضرية بأكملها. لكن يبدو أن زلزال لشبونة حدث في وقت ومكان جعلاه جزءا من جدل فلسفي حول الحداثة. وكونه وقع في القارة الأوروبية أدى إلى جعله موضوعا للنقاشات والجدليات الفكرية في ذلك الوقت، وكان له آثار على المجتمع الأوروبي.
الزلزال وقع خلال عيد ديني مهم، وأدى إلى هدم غالبية الكنائس الرئيسية في مدينة لشبونة ذات الأغلبية الكاثوليكية في وقت كانت تعج فيه بالمصليين. بعض السلطات الدينية أعلنت أن الكارثة الطبيعية كانت عقابا من الرب للبشر على خطاياهم.
لكن البعض تساءل: لماذا إذن دُمرت الكنائس ولم تدمر بيوت الدعارة؟ (تشير مصادر علمية إلى أن الكنائس والكاتدرائيات التي كان أغلبها في وسط المدينة كانت مبنية فوق رواسب طينية لنهر تاجة، وأن هذه الرواسب عادة ما تكون عرضة لما يعرف بعملية تسييل التربة التي تجعلها تفقد صلابتها وقوتها عند وقوع الزلازل، ومن ثم تزعزع أسس المباني الضخمة).
بعد أسابيع من وقوع الزلزال، ألف الكاتب الفرنسي الشهير فولتير قصيدة بعنوان “قصيدة عن كارثة لشبونة” (Poem on the Lisbon Disaster)، أعرب فيها عن عدم تقبله لوجهة النظر السائدة في ذلك الحين والتي لم تكن ترى تعارضا بين وقوع معاناة بشرية بهذا الحجم وبين خير وصلاح الرب، وتعتبر أن أي شر يتعرض له البشر يحدث من أجل خير أشمل لا يعلمونه، وأن كل شيء سيسير إلى الأفضل لأن الخالق محب للخير. كما هاجم فولتير هذا الاعتقاد المتفائل في روايته “كانديد” (Candide) التي صدرت في عام 1759.
وقد أرسل إليه الفيلسوف والكاتب الشهير جان جاك روسو خطابا مطولا ردا على ما ورد في القصيدة من أفكار. يقول روسو في الخطاب إن الرب ليس مسؤولا عن المعاناة التي تسبب فيها زلزال لشبونة، بل المسؤولية تقع على خيارات الناس وأفعالهم – على سبيل المثال تركز السكان في منطقة صغيرة بدل انتشارهم بشكل أوسع في المدينة. ويضيف أن الناس لم يتصرفوا بطريقة جيدة بعد الهزة الأرضية الأولى، ويتساءل: “كم من شخص سيء الحظ لقي حتفه في هذه الكارثة لأن أحدهم أراد أن يأخذ ملابسه، وآخر أوراقه، وثالث أمواله؟”
يقول عالم الاجتماع الأمريكي الراحل راسل داينز Russel R. Dynes الذي كانت له أبحاث رائدة في مجال في فهم السلوك البشري في أوقات الكوارث في مقال بعنوان “The Dialogue between Voltaire and Rousseau on the Lisbon Earthquake: The Emergence of a Social Science View” (الحوار الذي دار بين فولتير وروسو بشأن زلزال لشبونة: نشأة منظور علم الاجتماع) إن ملاحظات روسو تعتبر بمثابة أول محاولة لوضع مفهوم لما يسمى حاليا ‘نقطة الضعف ‘”.
ولم تقتصر نقطة ضعف لشبونة على كون مبانيها عرضة للانهيار خلال الزلازل، بل تمثلت كذلك في حرص الناس على وضعهم الاجتماعي الذي جعلهم يتجاهلون الخطر من أجل انتشال متعلقاتهم المادية. يضيف داينز: “بمصطلحات معاصرة، يمكن القول إن إدراكهم للخطر تقلص بسبب اعتدادهم بالذات ومنزلتهم الاجتماعية”. ويزعم داينز أن زلزال لشبونة كان “أول كارثة تقبلت الدولة مسؤولية الاستجابة العاجلة لها، ومسؤولية تعبئة الجهود لإعادة البناء”، حيث بدأ الاهتمام للمرة الأولى بتشييد مبان مقاومة للزلازل.
ربما لا يكون “زلزال لشبونة الكبير” الأقوى أو الأسوأ من حيث الخسائر البشرية والمادية في تاريخ أوروبا، ولكنه بكل تأكيد ترك أثرا كبيرا على المشهد الفكري والديني والسياسي والاجتماعي ودفع العلماء إلى تكريس المزيد من الجهد لدراسة تلك الظاهرة الطبيعية.