الجمعة، 29 سبتمبر 2023 10:00 ص
لم يجرؤ أحد على إخبار محمد على باشا بنبأ وفاة ابنه المفضل، طوسون، ونتيجة لهذا الخوف، تم وضع جسده الميت فى نعش مفتوح، وأدخلوه إلى القصر ليلا، ووضعوه أمام باب جناح النساء، وعند خروج «الباشا» صباحا من جناح «الحريم»، تعرف على ابنه، فصرخ صرخة مدوية، واستلقى عليه، وحضنه طويلا قبل أن يدخل فى عزلة دامت أياما طويلة، حسبما يصف «جيلبرت سينويه» فى كتابه «الفرعون الأخير- محمد على»، مضيفا: «سار الأب خلف نعش الابن فى موكب جنائزى ضم كبار ضباط الجيش والمسؤولين، وكان المصاب الأكثر إيلاما لمحمد على، والأعمق تأثيرا من كل ما سبق ومر به».
كان «طوسون» هو الابن الثانى لمحمد على، ووصل مع أخيه الأكبر إبراهيم إلى القاهرة يوم 28 أغسطس 1805، وكان عمره 12 عاما، بينما يبلغ إبراهيم 16 عاما، حسبما تذكر الدكتورة عفاف أحمد لطفى السيد فى كتابها «مصر فى عهد محمد على»، مضيفة: «لم يكن أبوهما قد أصبح واليا إلا منذ ما يقرب من شهر، وكان مركزه لم يزل مزعزعا، وكان قد انفصل عن أولاده لسنوات أربع».
تضيف «عفاف لطفى» أن محمد على وضع «طوسون» على رأس جيش الحجاز ضد الوهابيين عام 1809، وحصل على لقب باشا، وأثار هذا اللقب دهشة المؤرخين، فاعتقد بعضهم أنه راجع إلى أن الوالى كان شغوفا بطوسون، الذى كانت له وسائله الجذابة بصورة تفوق إبراهيم، خاصة حين مكث بجوار أبيه، عندما كان إبراهيم رهينة لدى السلطان العثمانى، وعمد آخرون إلى اختراع أسطورة أن إبراهيم لم يكن ابن محمد على وإنما كان ابن زوجته.
تؤكد «عفاف لطفى»، أن كل هذه الفروض تفتقد عنصرا مؤداه أن محمد على لم يكن يملك سلطة منح الألقاب، فلم يجعل من أحد أبنائه «باشا» ويهمل الآخر، فمنح الألقاب كان امتيازا من السلطان العثمانى، ومنح السلطان لقب «الباشا» لطوسون تشجيعا على إرسال حملة عسكرية كانت تعنى الكثير للسلطان، بينما لم تكن تعنى إلا القليل لمحمد على، واعتبر أن اللقب يمكن أن يكون حافزا على الإسراع بالحملة، أما بالنسبة للوالى فقد كان «إبراهيم» يؤدى المهمة الخطيرة حقا، وهى تدبير الأموال التى يحتاجها، ولم يكن من الممكن الاستغناء عنه ليسافر خارج البلاد، ويخوض حروب السلطان، لقد كان من الممكن أن يفعل طوسون ذلك.
تصف «عفاف» شخصية طوسون بأنه كان ذا مزاج لطيف ومشرق على العكس من أخيه الكبير ذى الطبع الحاد، وأخيه الأصغر العنيف المتغطرس «إسماعيل»، كان محبوبا للغاية داخل الجيش وبين أفراد الشعب، وأحبه الرجال لكرمه ولطفه، وكثيرا ما عارض إجراءات والده القاسية وتشفع عنده لصالح الشعب، كذلك كان فى إمكانه أن يكون متعاليا ومسرفا، وعندما كان والده يعنفه لإسرافه، ويقارن بين ذلك وبين أسلوبه هو المعتدل فى الحياة، يقال إن طوسون كان يجيبه: «أنت لم تكن ابن والى، أما أنا فابن محمد على، ويجب أن أكون كريما».
يكشف نوبار باشا فى مذكراته، وكان وزيرا لمحمد على ومستشارا لابنه إبراهيم: «كان عباس باشا ابن طوسون كريما، لكن ليس على طريقة والده المستعد فى أى وقت لأن يهب أحدهم رداء مصنوعا من الكشمير الرائع، أو يعطيه فرسه الأصيل الذى يمتطيه»، ويضيف: «كان إبراهيم يقول لى: أخى طوسون عرف عنه الكرم واشتهر به، لكن هل يمكن أن نقول عنه إنه مثلا ساعد خادما على أن يحيا حياة كريمة، أو جنبه السؤال مثلما فعلت أنا مرات كثيرة، وأفعله كل صباح، أنا الذى يعتبروننى بخيلا».
يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على» أنه بعد عودة «طوسون» من الحجاز، تولى قيادة الفرق التى أنفذها محمد على لترابط على فرع رشيد، واتخذ معسكره فى برنبال الواقعة بالبر الشرقى للنيل تجاه رشيد، والتمس بها الراحة من المعارك التى خاضها فى الحجاز، فأخذ الموسيقيين والراقصين والراقصات والمغنيات ومجالس اللهو، وبقى بها إلى أن عاجلته منيته ليلة 29 سبتمبر، مثل هذا اليوم، سنة 1816 إثر مرض ثار به فجأة، قيل إنه نشأ من تهالكه على اللذات، ولم يمهله أكثر من عشر ساعات ثم فاضت روحه، فنقلت جثته بطريق النيل إلى القاهرة ودفن فيها فى مقابر الإمام الشافعى، وتوفى فى مقتبل الشباب، فجزع أبوه على فقده، وحزن الناس لوفاته، لما كان عليه من الشجاعة والجود والميل إلى الشعب.