التخطي إلى المحتوى

منذ بزوغ الغناء عند العرب واسترفادهم الشعر.. انفسح لحظتها فضاء يسحر الأسماع ويخلب الألباب، يختلط فيه الصوت الحسن والنظم البديع، وعلى أثر ثنائيتهما الأنيقة ظهرت أروع الأعمال الغنائية حتى اختصت علاقتهما بالعراقة والأصالة والتغاريد المدهشة. واستحقت هذه الثقافة الغنائية الفصيحة، المستمدة جماليتها من القصيدة الرصينة واللحن الخلاب والإنشاد المذهل، أن تحتفي بها وزارة الثقافة من خلال مهرجان «الغناء بالفصحى» في نسخته الثالثة التي أقيمت مؤخراً، على مسرح الفنان أبو بكر سالم بالرياض، في أربع ليالٍ مترعة بالوصلات الغنائية لمطربين من المملكة والعالم العربي.و برع هذا المهرجان منذ بدايته في إعادة بريق الفصحى، إلى جانب تكريس حضور الغناء الفاخر، وهو ما يمثل العمل الإبداعي الذي بمقدوره أن يرفع مستوى الذائقة الثقافية، فضلا عن إثارة الحراك الفني وتحسين المنتجات الأدبية والغنائية، لنجد الساحة تضج بصُناعٍ متمكنين يستعينون بالكلمة والإيقاع اللذين يرتقيان بالمناخ الثقافي.

أما العرب فلم يكونوا على جهل باللحن والموسيقى والإيقاع، إذ دوّنت المراجع التاريخية بأن «العرب جعلت الشعر موزوناً لمد الصوت فيه والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور»، وقد قال ابن رشيق القيرواني:

«الموسيقى حلة الشعر.. فإن لم يلبسها طويت».

وعرف العرب الحداء والنشيد قبل الغناء، وممن أشتهر في ذلك «سلام الحادي» في زمن الدولة العباسية، ومن رجزه:

ألا يا بانة الحادي..

بشاطئ نهر بغدادِ..

شجاني فيك صياح..

طرُوب فوق ميّادِ..

ومن المعايير الذوقية التي يفضلها العرب في المغنين، ما قاله ابن أبي إسرائيل: «هو الذي يُشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويُقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلسُ مواضع النبرات، ويتوقى ما يشاكلها من النقرات».

وتعتبر الروايات التاريخية المشيرة إلى عمق القصائد الفصحى والغناء في التاريخ الثقافي العربي، امتداداً أفضى إلى مهرجان «العناء بالفصحى»، وذلك لتحقيق العناية باللغة العربية كأحد الأهداف الإستراتيجية لرؤية السعودية 2030.