جرياً على عادات الأولين، سأقف على تلةٍ في صبيحة يوم عابر وسأعلن أن الصحراء هذه هي كتاب الأبد. شببتُ وأنا أقرأ على صفحات رملها رسائل الدهر وصمته اللانهائي وتغيّر التضاريس. وفي الليالي المضاءة بقمر الحنين كنتُ أرى الشُّهبَ وهي تخط على وجه السماء الصافي قصائد المرتحلين في ليالي السمر. ومن تلٍّ إلى تل، كانت الريحُ تحمل غبار السنين وكأنها نُذرت منذ أول الخليقة لأداء هذا الواجب الطبيعي. ومن يعبر في الصحراء، يُدرك أن الخلود مجرد وهمٍ للخائفين من الموت، وأن الأثر، أي أثرٍ، لا بد أن تجرفه الريح وهو إلى زوالٍ لا محالة.
وجرياً على منوال اللاحقين، سأدفن هاتفي الخلوي في الرمل وأدّعي أنني انتصرتُ على قيد التكنولوجيا، وأن حياتي في الصباح هي انتماءٌ لواقعٍ مرئي فيما البقيةُ من حولي يسبحون في فضاء افتراضي. أما وجودي في المساء، فهو الجلوس أمام مرآةٍ مُغلقة وفي يدي كتاب، فيما البقية من أصدقائي مجرد صور متحركة على الشاشات وأفواههم حفلةُ ثرثرات.
سأكتب عن الحب باعتباره ذاكرة وأثراً، وإذا سألني طفلٌ ما هو الزمن؟ سأعطيه مقصاً وسأتركه يلعبُ في غابة الأسلاك والألياف الرقمية لعله يجدني حقيقياً وينصحُ الوردة كي تبتسمَ لي. ولأن الأضداد تجذب بعضها بعضاً، سأراقب مولد الذكاء الاصطناعي، وسأبحث عن نقيضه «الغباء الاصطناعي» وبالتأكيد سأجدهما يتصارعان داخل اللحظة التي أعيشها الآن.
يعشقُ البشرُ فكرة التغيير السريع في الأفكار والأدوات والممارسات. لكن امتطاء الخيول السريعة يحتاج إلى مهارة فرسانٍ متمرسين وإلا سيكون مصيرهم السقوط عند أول كبوة. كلما تبدّلت القيم بسرعة، أصبح الناس يُجهدون أنفسهم للحاق بركب المنطلقين نحو المختلف والجديد. لذلك نجد الأكثرية يلهثون وراء قطار الزمن السريع هذا، وقلة فقط من يحظون بفرصة الصعود في مقطورته الأخيرة.
لا يختلف الأولون عن اللاحقين في شيء سوى وهم التغيير. إذ يلعب الوقتُ لعبته في عقول بعض البشر الذين يظنون أنهم يتقدمون لكنهم يتراجعون إلى الوراء. ولا أحد يعرف أين تنام الحقيقة وأين يقع الصواب وأين يكمنُ الخطأ. كان الناس في الماضي يذهبون إلى الأشياء والأسواق. لكن اليوم صارت الأشياء والأسواق تأتي إليهم في بيوتهم. وقريباً ربما لا يحتاج كثير من الناس إلى أرجلهم. إذ يكفي الجلوس للأبد أمام الشاشة التي توفر لهم الوهم بالانتصار على المسافة والزمن.