التخطي إلى المحتوى

مخاوف من تنصل النظام السوري من ملف المعتقلين بعد إعدامه الآلاف وشطبهم من السجلات

يبدي حقوقيون سوريون مخاوف من أن يكون هدف النظام السوري من «إنهاء العمل» بـ«محاكم الميدان العسكرية» الاستثنائية المخالفة للشرعية القانونية والدستورية والدولية، هو التنصل من قضية آلاف المعتقلين المدنيين الذين تم إعدامهم بموجب أحكام صدرت بحقهم من تلك المحاكم، وجرى شطب أسمائهم من السجلات.

ويوضح محامٍ له باع طويل في المهنة لـ«الشرق الأوسط»، أن «الأنظمة الاستبدادية، ومن أجل تثبيت حكمها وبقائها وترهيب المجتمع وتطويعه وكتم أصوات المعارضين، تصدر قوانين وتنشئ أجهزة تسميها محاكم، ضاربة بمبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون، عرض الحائط».

ويقول: «في سوريا ومنذ وصول حزب البعث الحاكم إلى السلطة أواخر ستينات القرن الماضي، صدرت الكثير من القوانين والمراسيم التشريعية المتعارضة مع الدستور القائم آنذاك، والتي أسست لحكم استبدادي، من بينها إنشاء محاكم استثنائية، منها محاكم الميدان العسكرية، ومحكمة أمن الدولة، ومحكمة الأمن الاقتصادي وغيرها».

صورة جوية لـ«سجن صيدنايا» (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

ويضيف: «النظام يطلق تسمية محاكم على تلك الهياكل، ولكن في الحقيقة، وبالنظر إلى طبيعة عملها، لا يمكن تسميتها إلا أجهزة ترهيب».

وأصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد في الثالث من سبتمبر (أيلول) الحالي، «المرسوم التشريعي رقم 32»، القاضي بإنهاء العمل بـ«المرسوم التشريعي 109 لعام 1968» المتعلق بإحداث «محاكم الميدان العسكرية».

وأوضح المرسوم، أن القضايا المرفوعة أمام «محاكم الميدان العسكرية» ستحال «بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية».

وكانت «محاكم الميدان العسكرية» أُنشئت بموجب المرسوم 109 لعام 1968 بعد نكسة يونيو (حزيران)، لمحاكمة «الجنود الفارين من الخدمة، أو الذين التحقوا بصفوف العدو». وعُدّل المرسوم المذكور بموجب «المرسوم رقم 32 لعام 1980»، حيث أضيفت عبارة «أو عند حدوث الاضطرابات الداخلية»؛ وبذلك شمل اختصاص المحكمة، العسكريين والمدنيين.

من داخل أحد سجون النظام (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

محامٍ آخر، قال لـ«الشرق الأوسط»: إن إنشاء «محاكم الميدان العسكرية مخالف للقوانين الوطنية، والدستور والمواثيق الدولية في تشكيلها وطرائق التحقيق وإصدار الحكم؛ إذ يحرم المتهم الماثل أمامها من الحصول على حقوقه الطبيعية في محاكمة عادلة، ومن حقه في الدفاع عن نفسه بكل الطرق والأساليب، ومن حقه في الطعن بالحكم الذي يصدر عنها، كما أنها تُشكل من ضابط كرئيس لها وعضوين آخرين، والمفارقة أن رئيسها لا يشترط أن يكون حامل إجازة في الحقوق».

أرقام… وضحايا

ومنذ اندلاع الحراك السلمي ضد النظام في منتصف مارس (آذار) 2011، ثم تحوله بعد أشهر قليلة، إلى نزاع دام بين جيش النظام وفصائل المعارضة المسلحة، قُتل نحو نصف مليون شخص، بينما لا يزال مصير عشرات الآلاف من المفقودين والمخطوفين والمعتقلين لدى مختلف الأطراف، وخصوصاً النظام، مجهولاً.

«المرصد السوري لحقوق الإنسان»، وفي إحصائيات نشرها في عام 2022، يذكر أن «969854 شخصاً بينهم 155002 مواطنة تم اعتقالهم منذ بداية الثورة السورية في مارس 2011 من قِبَل أجهزة النظام الأمنية، بينما يبلغ عدد المعتقلين المتبقين في سجون النظام 152713، بينهم 41312 مواطنة».

حاجز لقوات النظام في درعا (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

المحامي نفسه، يلفت إلى أن الأهالي «وخصوصاً من لديهم معتقلون ومفقودون ومختفون قسراً، استبشروا خيراً بمرسوم إنهاء العمل بمحاكم الميدان العسكرية على أمل خروج أبنائهم من المعتقلات، أو معرفة مصيرهم على الأقل، ولكن بالتدقيق بمفرداته يتضح، أن عمل هذه المحاكم يمكن أن يتم استئنافه ما دام أن المرسوم الجديد تضمن: إنهاء العمل، وليس إلغاء العمل».

ويشير، إلى أن النظام سبق وأن اصدر مرسوما في العام 2004 بإلغاء «محاكم الأمن الاقتصادي» الاستثنائية، والتي تم إنشاؤها بمحافظات دمشق وحلب وحمص عام1977، وكانت تختص بالنظر في الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات الاقتصادية، ومن ثم أضيفت إليها جرائم التهريب إذا تجاوزت قيمة البضاعة المهربة، أو التي شرع في تهريبها، الـ30 ألف ليرة سورية، ومن ثم تم رفع المبلغ إلى 300 ألف ليرة.

ونص مرسوم إلغاء «محاكم الأمن الاقتصادي»، بإحالة القضايا المنظور أمامها حسب الوصف الجرمي، فإن كانت جنايات اقتصادية تحال إلى محاكم الجنايات العادية المدنية، أما إن كانت جُنحاً فتحال إلى محاكم بداية الجزاء، وفق قول المحامي الذي يوضح، أن «محاكم الأمن الاقتصادي» كانت تصدر أحكاماً جائرة تتراوح ما بين 20 و25 سنة سجناً ومؤبداً وغرامات مالية كبيرة، وممنوع فيها إخلاء السبيل.

من داخل أحد سجون النظام (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

ويلفت، إلى أنه بعد اندلاع الثورة السورية صدر قانون بإحداث «محاكم الجنايات المالية والاقتصادية» والتي تحال إليها القضايا من قاضي التحقيق المالي، الذي يوجه الاتهام للشخص، ومن ثم يحيله إلى تلك المحاكم.

ويذكر المحامي، أنه إضافة إلى النظر في الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات الاقتصادية وجرائم التهريب، تمت إضافة جرائم جديدة إلى اختصاص «محاكم الجنايات المالية والاقتصادية»، منها «العمل بالحوالات الخارجية من دون ترخيص». و«التعامل بغير الليرة السورية». و«المتاجرة بالمواد المدعومة». ويضيف: «بذلك يكون النظام أعاد العمل بمحاكم الأمن الاقتصادي، لكن تحت مسمى آخر».

صلاحيات؟

«القضاة في (محاكم الجنايات المالية والاقتصادية)، وحتى رئيسها، لا يتمتعون بأي صلاحيات، فالأحكام فيها تأتي (بتعليمات من فوق)، ولكن يجوز فيها إخلاء سبيل المتهم مع أن هذا الأمر يتم بصعوبة فائقة»، بحسب المحامي.

معرض في الولايات المتحدة لصور الضحايا التي تم تهريبها من سوريا (مواقع التواصل)

ويذكر، أن «محاكم الجنايات المالية والاقتصادية» الموجودة في كل محافظة، ويرأسها في دمشق نذير إسماعيل، وفي ريف دمشق عايد حسن، تصدِر أحكاماً مشابهة لتلك التي كانت تصدرها «محاكم الأمن الاقتصادي»، ويقول: «لقد تم الحكم على شخص اتهم بالتعامل بغير الليرة السورية، بالسجن أربع سنوات وغرامة مالية مقدارها أكثر من 400 مليون ليرة و300 ألف دولار أميركي».

ويقول المحامي: إن «المحكومين من قِبل محاكم الجنايات المالية والاقتصادية، قد تشملهم مراسيم العفو الرئاسي، لكنهم مطالبون بدفع غرامة مالية لإطلاق سراحهم».

«سجن صيدنايا»

وإلى ذلك، يقول المحامي نفسه: إن عدداً كبيراً ممن اعتقلتهم الأجهزة الأمنية خلال فترة الحراك السلمي وسنوات الحرب تم إحالتهم إلى «محاكم الميدان العسكرية» خصوصاً من وُجهت لهم الأجهزة الأمنية تهم «الانتماء إلى تنظيم إرهابي, وقتل إنسان…». ويشير إلى أن معظم من كان يتم إحالتهم إلى «محاكم الميدان العسكرية» من قبل الأجهزة الأمنية يودعون في «سجن صيدنايا» العسكري سيئ الصيت، ويتم وضع قسم كبير منهم في «الجناح الأحمر» المخصص للمتهمين بـ«الإرهاب»، بينما هناك جناح آخر يطلق عليه «الجناح الأبيض»، وهو مخصص للمتهمين بتهم اخف.

ويقع سجن صيدنايا على بعد نحو ثلاثين كيلومتراً شمال دمشق، ويعدّ السوريون أن «الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود»، بسبب شتى أنواع عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون ووفاة الكثيرين منهم جراءها.

من معرض صور الضحايا (مواقع التواصل)

«أغلبية المعتقلين المدنيين في سجن صيدنايا يعرَضون على محاكم الميدان العسكرية، التي أصدرت أحكام إعدام بحق معظمهم، بعدما وجهت لهم تهم الإرهاب» على حد قول المحامي. وبعدما يشير إلى أن صدور مرسوم إنهاء العمل بـ«محاكم الميدان العسكرية»، يتزامن مع تزايد الضغوط الدولية والعربية على النظام للإفراج عن المعتقلين في سجونه، يبدي المحامي تخوفه من أن يكون هدف النظام من هذا المرسوم، «هو التنصل من هذا الملف، عبر الادعاء بأن عدد المعتقلين في سجونه قليل جداً، وأن الأعداد الكبيرة التي تتحدث عنها منظمات حقوقية، وبعض وسائل الإعلام الأجنبية غير صحيحة، وهي غير موجودة لدينا»… والواقع ،هو أن النظام «قتلهم بعمليات الإعدام والتعذيب».

ويذكر، أن مقرّ المحكمة الرئيسي يقع في «المجمع الأمني» الذي يضم مقار أفرع شعبة المخابرات العسكرية في منطقة كفر سوسة وسط دمشق، وأن للمحكمة مقار فرعية، أحدها في حي القابون شمال شرق العاصمة.

أكثر من 105 آلاف معتقل قضوا تحت التعذيب في السجون، من ضمنهم أكثر من 83 في المائة تم تصفيتهم وقتلهم ومفارقتهم للحياة، في الفترة الواقعة ما بين شهر مايو (أيار) 2013 وشهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015.

«المرصد السوري لحقوق الإنسان»

محاكمة بدقيقة واحدة

دياب سرية من «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، يشير في تقرير نشرته وكالة الصحافة الفرنسية إلى أن «نحو 70 في المائة من المعتقلين في سجن صيدنايا بعد عام 2011، عُرضوا على محاكم الميدان العسكرية التي حكمت على معظمهم بالإعدام».

وأصدرت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» الثلاثاء 12 سبتمبر (أيلول) الحالي تقريراً يوثق إعدام النظام السوري 7872 شخصاً بينهم 114 طفلاً و26 سيدة بأحكام صدرت عن «محاكم الميدان العسكرية» في الفترة الواقعة بين مارس (آذار) 2011 وحتى شهر أغسطس (آب) من 2023 الحالي.

وأوضحت «أنّ معظم المختفين قسرياً على يد النظام، والبالغ عددهم ما يزيد على 96 ألفاً، خضع للمحاكمة في هذه المحاكم، بحيث أن عمليات الاختفاء القسري ممنهجة وغير عشوائية، واستندت إلى قرارات وتوجيهات مدروسة نظمت وأصدرت وفق نظام أمني وعسكري محكم ذي هيكلية تنظيمية مترابطة، وتسلسل قيادي متصل بين جميع الإدارات والأجهزة المرتبطة بمراكز الاحتجاز، بدءاً من رئيس الجمهورية، إلى نائب رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية، مجلس الأمن الوطني، وزارة الدفاع، الأجهزة الأمنية، القضاء الاستثنائي، إدارة الشرطة العسكرية، وزارة الداخلية».

وفي تقرير سابق لها كشفت «منظمة العفو الدولية»، عن أن أكثر من 13 ألف شخص أُعدِموا شنقاً في سجن صيدنايا، بين شهر سبتمبر (أيلول) 2011 وشهر ديسمبر (كانون الأول) 2015.

أقبية سجن صيدانيا (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

وقُبيل الحكم عليهم بالإعدام، يواجه الضحايا، ما تسميه السلطات السورية، «المحاكمة» في «محكمة الميدان العسكرية»، ولكن في الواقع، هذا إجراء يتم تنفيذه «لمدة دقيقة أو دقيقتين»، داخل مكتب وأمام ضابط عسكري، حيث يتم فعلياً تسجيل اسم المعتقل في سجل المحكومين عليهم بالإعدام، وفق ما جاء في تقرير «منظمة العفو الدولية».

محامٍ آخر يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن أن جلسة «المحاكمة» التي تجريها «محكمة الميدان العسكرية»، تتم في مبنى السجن، وكذلك عمليات الإعدام، ومن ثم يجري تحميل جثث الضحايا التي يرمز لأصحابها بأرقام في شاحنات كبيرة، تنقلها إلى أماكن غير معروفة وتدفنها في مقابر جماعية.

المحامي يلفت، إلى أن عدد المعتقلين الذين يموتون تحت التعذيب في سجن صيدنايا، وفي أقبية الأفرع الأمنية أثناء التحقيق معهم، أكثر بكثير ممن يقضون بأحكام الإعدام التي تصدرها «محكمة الميدان العسكرية». ويضيف: «كل معتقل يعدم، وكذلك من يموت تحت التعذيب، سواء في سجن صيدنايا أو في الأفرع الأمنية، يشطب اسمه من سجلات السجن، وكذلك من سجلات الأفرع الأمنية… ولدى سؤال ذويه أو أقاربه عنه يكون الجواب الجاهز: غير موجود لدينا».

ويعرب المحامي عن اعتقاده، بأن “أغلب من تم اعتقالهم من قبل النظام منذ بداية الثورة قضوا في عمليات الإعدام وتحت التعذيب”. ويستند في ذلك إلى الأعداد القليلة جدا التي خرجت من معتقلات النظام بموجب مرسوم العفو عن «الجرائم الإرهابية» الذي أصدرته الرئاسة، في 30 أبريل (نيسان) العام 2022، واستثنى «الجرائم» التي «أفضت إلى موت إنسان».

ويذكر «المرصد السوري» في إحصائياته، أن أكثر من 105آلاف معتقل قضوا تحت التعذيب في السجون، من ضمنهم أكثر من 83 في المائة جرت تصفيتهم وقتلهم ومفارقتهم للحياة ، في الفترة الواقعة ما بين شهر مايو (أيار) 2013 وشهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015.

ثروات الدم…

يتحدث محامٍ ثالث لـ«الشرق الأوسط»، عن أن معرفة مصير المعتقلين شكلت مصدر ثراء كبيراً لضباط في «سجن صيدنايا» وضباط كبار في الأجهزة الأمنية. ويلفت، إلى أن تكلفة الحصول على «كرت زيارة» من «محكمة الميدان العسكرية» لرؤية معتقل لمدة لا تتجاوز 5 دقائق، تصل إلى 5 – 10 آلاف دولار أميركي، وتكلفة الحصول على معلومات حول الفرع الأمني المعتقل فيه الشخص، و تهريب محكومين بالإعدام من سجن صيديانا ، 100 ألف دولار».