أصبح مشهد آلاف المتظاهرين الإسرائيليين في الشوارع مشهدا مألوفا.
يتظاهرون ضد عزم حكومة اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو تمرير مشروع قانون يحدُّ من صلاحيات محكمة العدل العليا، في إطار ما بات يُعرف بخطة تعديلات في النظام القضائي الحالي.
يزعم رئيس الوزراء نتنياهو وأنصاره في الليكود وأحزاب اليمين المشاركة في الائتلاف الحكومي، أن هذه التعديلات القضائية ضرورية لتعزيز السلطة التنفيذية المنتخبة من الشعب، وكبح جماح السلطة القضائية التي تتدخل ليس فقط في القوانين ولكن أيضا بعمل الحكومة.
وقد أشعل هذا الجدل بين نتنياهو وأنصاره من جهة والمعارضين له من جهة أخرى، أشهراً من الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي.
فما هي هذه التعديلات القضائية وهل ستخل في حال سنّها بموازين الديمقراطية في إسرائيل؟
جوهر التعديلات القضائية
من المعروف أن إسرائيل لم تضع لنفسها دستورا مكتوبا وبدلا من ذلك لديها ما يسمى بالقانون العام الذي ينظم عمل مؤسسات الدولة حتى الآن.
والمحكمة العليا في إسرائيل هي رأس السلطة القضائية، وتمتلك صلاحيات منها النظر في جميع الاستئنافات والقضايا ضد سلطات الدولة، والأهم من ذلك أنها تبتّ في دستورية القوانين التي تصدرها الحكومة (السلطة التنفيذية) ولديها صلاحيات لإلغائها.
في مطلع العام الجاري وبعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية التي توصف بأنها الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، أعلن وزير العدل من حزب الليكود ياريف ليفين، عن رزمة “إصلاحات قضائية”، تهدف أساسا إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا وإعادة هيكلة الجهاز القضائي. وتشمل الإصلاحات مجالات أساسية:
- سلطة المحكمة العليا: تسعى خطة الإصلاح إلى تقليص بند “حجة المعقولية” والذي يمنح المحكمة العليا صلاحيات في إسقاط قرارات الحكومة و تعيناتها على أساس أنها لا تلبي معايير المعقولية.
- تركيبة المحكمة العليا: بحيث يُمنح أعضاء الكنيست نفوذا أوسع في لجنة تعيين قضاة المحكمة العليا.
- منع تنحية رئيس الوزراء: تكون تنحية رئيس الوزراء بطريقتين فقط، إما أن يتنحى بنفسه أو أن تقوم الحكومة على تنحيته بأغلبية ثلاثة أرباع وزراء الحكومة، ثم يتم تأييد هذا القرار بأغلبية 90 عضوا في الكنيست.
- الحدّ من صلاحيات المستشارين القانونيين واعتبار توصياتهم غير ملزمة للحكومة.
هذه الخطة التي حصلت على دعم الأحزاب اليمينية والدينية المتشددة، قادت إلى احتجاجات واسعة ومظاهرات مستمرة منذ عدة أشهر كشفت عمق الانقسام في المجتمع الإسرائيلي الذي وصل إلى المؤسسة العسكرية وقوات الاحتياط بالإضافة إلى النخب الاقتصادية والثقافية والأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، التي رأت في الخطة تقويضا للديمقراطية في إسرائيل.
ورغم محاولات نتنياهو وليفين نفي أن يكون الهدف هو إحكام السيطرة على الجهاز القضائي ممثلا بمحكمة العدل العليا وتعيين القضاة، إلا أن المعارضة أعربت عن عدم ثقتها بنوايا نتنياهو وائتلافه اليميني الحاكم.
والعارفون بفسيفساء المشهد الداخلي الإسرائيلي يشيرون إلى أن هذه المعركة هي بين أنصار نتنياهو ومعارضيه، خاصة بعد إخفاق نتنياهو في الحصول على المقاعد اللازمة لتشكيل حكومة مريحة، واضطراره إلى الاعتماد على أصوات حزبين يمينيين متطرفين وأحزاب دينية متشددة، بل هناك من يشير إلى أن نتنياهو أصبح أسيرا لدى هذه الأحزاب بسبب خشيته من سقوط حكومته والعودة إلى المعارضة.
البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) الذي دخل في عطلته الصيفية، دعا لمناقشة ما يسمى بحجة المعقولية وهو القانون الذي أقره الكنيست بعد حصوله على 64 صوتاً مقابل لا شيء إثر انسحاب المعارضة من جلسة التصويت.
وبحسب القانونيين، فإن أحد الأهداف الأساسية من هذا القانون هو تمكين الحكومة من تمرير التشريعات، سواء التي أبطلتها المحكمة العليا سابقا، أو التي ستمرر في المستقبل، وذلك بموافقة أغلبية بسيطة من أعضاء الكنيست، أي 61 عضوا من أصل 120 عضوا.
ويقول المعارضون إن القانون الجديد، إلى جانب بقية ما يعرف بخطة الإصلاح، يلغي عمليا الإشراف القضائي على الحكومة والبرلمان.
ومن المقرر أن تنظر المحكمة العليا في 19 من شهر أيلول /سبتمبر الجاري، وبتركيبة كاملة مكوّنة من 15 قاضيا، في الطعون التي قُدمت ضد قانون أساس “تقييد حجة المعقولية”.
طوق نجاة
يقول نتنياهو إن الحكومات الإسرائيلية لطالما احترمت القانون والأحكام القضائية، وهذه الإصلاحات ستُعيد التوازن بين السلطات الثلاث، كما أنها ستمنع المحاكم من تجاوز صلاحياتها.
وتقول لاهاف هاركوف مراسلة موقع جويش إنسايدر لبي بي سي، إن الكثير من الإسرائيليين يعتقدون أن هناك نوعا من عدم التوازن في الطريقة التي تتعامل بها المحاكم الإسرائيلية مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما أن زعماء المعارضة الرئيسيين اعتادوا قول ذلك سابقا، لكن خلافاتهم السياسية مع نتنياهو دفعتهم للتوقف.
لكنْ، هناك انطباع عام بأن أولوية نتنياهو هي السيطرة على الجهاز القضائي لأسباب شخصية، كما يقول المحامي والخبير في الشأن الإسرائيلي محمد دحله، بالإضافة لالتقاء مصالحه مع المستوطنين المتشددين.
وترى هاركوف أن هناك علاقة بين التعديلات المقترحة ومعركة نتنياهو المتواصلة مع الجهاز القضائي في قضايا الفساد وسوء استخدام المنصب التي يخوضها منذ سنوات، ورغبته الملحة في إسقاط هذه التهم التي تحوم فوق رأسه.
وتضيف هاركوف أنه يبدو أن نتنياهو المعروف بحذره الشديد ومعرفته الوثيقة بالنظام السياسي الإسرائيلي وإتقانه لعبة التوازنات والاستفادة من التناقضات بين الاتجاهات السياسية، يتعرض لضغوط كبيرة سواء من المعارضة في الداخل أو من أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة وإدارة الرئيس بايدن، للتوصل إلى صيغة مناسبة تقبل بها المعارضة التي ترفض حتى الآن تقديم حبل النجاة لنتنياهو كما يقول أقطابها.
معارضو التعديلات القضائية
نتنياهو الذي يرفض التراجع عن هذه الخطة المثيرة للجدل، يتعرض لانتقادات داخلية من خلال المظاهرات الشعبية ورفض زعماء المعارضة مد يد العون له أو الدخول في حكومة ائتلافية يرأسها هو، حتى أن بعض الإسرائيليين قالوا إنهم يفضلون الهجرة على العيش في ظل دولة يحكمها متطرفون مثل الوزير ايتمار بن غفير وشريكه بتسلئيل سموتريتش وزير المالية.
ليس هذا وحسب، فرئيس الوزراء يتعرض لانتقادات من مؤيدي إسرائيل في الخارج، والأهم من إدارة الرئيس جو بايدن الذي يرفض حتى الآن دعوة نتنياهو للبيت الأبيض، في إشارة الى امتعاض الإدارة الأمريكية من المواقف المتطرفة للحكومة الإسرائيلية.
بطاقة دخول إلى البيت الأبيض
وقبل أيام قليلة، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ اقترح تسوية كبرى وافق عليها نتنياهو، وتشمل تجميدا للخطة لمدة عام ونصف.
تقول لاهاف هاركوف مراسلة موقع جويش إنسايدر، إن فرص نجاح هذه التسوية ضئيلة للغاية خاصة بعد رفض زعيم حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي المعارض بيني غانتس لها.
وترى هاركوف أن قبول نتنياهو للتسوية يعود إلى رغبته الشديدة بدخول البيت الأبيض، فهي بمثابة بطاقة الدخول بالنسبة له.
هل تبرز التعديلات القضائية الصراع بين المتدينين والعلمانيين؟
من الواضح أن الجمهور الديني المتشدد ممثلا بالأحزاب الدينية واليمينية التي يطلق عليها أحزاب قومية، يؤيد بشدة التعديلات القضائية، في حين يرى فيها المجتمع العلماني خطرا على مبدأ فصل السلطات ومحاولة من المتدينين لتحويل إسرائيل إلى دولة دينية أصولية.
يقول المحامي محمد دحله لبي بي سي إن اليهود المتدينين يسعون بهذه التعديلات إلى تحجيم صلاحيات المحكمة العليا، خاصة أنهم يخوضون حربا طويلة لإعفائهم من الخدمة العسكرية، وهو ما تعيقه المحكمة ويرفضه الإسرائيليون العلمانيون.
وفي حال انتصر الائتلاف الحاكم وأُقرت هذه التعديلات، فإن الشرخ بين المعسكرين الديني والعلماني سيتعمق لدرجة إمكانية حصول اقتتال داخلي، أو حتى مطالبة البعض بتقسيم دولة إسرائيل إلى دولتين، واحدة لليهود المتدينين وأخرى لليهود العلمانيين، بحسب ما يقول المحامي دحله.
الفلسطينيون من حملة الجنسية الإسرائيلية
لوحظ عزوف الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية عن المشاركة في المظاهرات ضد التعديلات القانونية. ويقول الفلسطينيون إن القانون الإسرائيلي يميز ضدهم في إشارة إلى قانون القومية المثير للجدل، وإنهم لا يرون أنفسهم جزءا من النقاش الدائر حول التعديلات القضائية، ولا سيما وأن مسألة وضع الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية لا تشكل جزءا من حركة الاحتجاج الحالية .
يقول عضو الكنيست السابق عن التجمع الوطني الديمقراطي ( حزب قومي عربي) سامي أبو شحاده لبي بي سي، إن أي محاولة لإضعاف الجهاز القضائي ستأثر بلا شك على مكانة وقوة الأقلية العربية في إسرائيل.
وعن عدم مشاركة الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية في المظاهرات، يرى أبو شحادة أن الأهداف السياسية لقادة حركة الاحتجاج الذين يؤمنون “بالفوقية اليهودية” لا تتقاطع مع أهداف الحزب الذي يطالب بنظام ديمقراطي يقوم على العدالة والمساواة لجميع مواطني الدولة، بحسب أبو شحادة.
ولم تشهد البلاد منذ تأسيسها قبل 75 عاما موجة من الاحتجاجات الغاضبة مثل هذه المستمرة حتى الآن، ما يجعل إسرائيل تقف على مفترق طرق ربما يكون محفوفا بالمخاطر.